تنبيهٌ على قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية

[الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحْبه ومَن والاه.
أمَّا بعد:]
إننا لمّا سمعنا بعضَ النماذجِ مِن تلاوة القرآن الكريم بالمقامات؛ ازدَدْنا يقينًا أنها ليست القراءةَ السُّنِّيَّةَ السَّليمةَ للقُرآنِ العظيم، ولَمّا تَعَمَّقْنا في فَهْمِ ما يفعلون؛ تجلَّىٰ لنا سببُ نفورِ النفْسِ عن قراءاتِ بعضِ القُرَّاء، التي أقلُّ وصفٍ لها -وهو الوصف الذي يَملكه مَن لم يَعلم ما وراء الأكَمة- أنها: قراءةٌ مُتكَلَّفةٌ مُتنطِّعةٌ غيرُ صحيحة بمُجملِها.
واستحسانُ البعض لها لا يُغيِّر وَصْفَها، لٰكنّه محلُّ عَجَبٍ:
مَقاماتٌ مُوسيقيّة! وإيقاعات طَربيّة!  أَعَدَّها أهلُ (لَهْوِ الحَديث)([1]) (الغناء)؛ فكيف تَطيب النفسُ بتنزيلِ (أحسنِ الحديث)([2]) -القرآنِ العظيم الكريم، كلامِ ربِّ العالَمين- عليها؟!
قال العَلَّامةُ السَّخاويُّ (ت643ﻫ) رَحِمَهُ اللهُ:
"رَتِّلْ وَلَا تُسْرِفْ وَأَتْقِنْ وَاجْتَنِبْ * نُكْرًا يَجِيءُ بِهِ ذُوُو الْأَلْحَانِ" ([3])  
وفيما يلي بيان:

حُكْمُ قراءةِ القرآنِ الكريمِ بالمقاماتِ الموسيقيّة

روى الحافظ ابنُ أبي غَرَزَة -(ت276ﻫ)  رَحِمَهُ اللهُ - عَنْ عُلَيْمٍ قَالَ:
كُنْتُ مَعَ عَابِسٍ الْغِفَارِيِّ [رَضِيَ اللهُ عَنْهُ] عَلَىٰ سَطْحٍ، فَرَأَىٰ قَوْمًا يَتَحَمَّلُونَ مِنَ الطَّاعُونِ، فَقَالَ: مَا لِهَـٰؤُلاءِ يَتَحَمَّلُونَ مِنَ الطَّاعُونِ؟! يَا طَاعُونُ! خُذْنِي إِلَيْكَ. مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَمٍّ لَهُ -ذُو صُحْبَةٍ-:
لِمَ تَمَنَّى الْمَوْتَ، وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ عَمَلِهِ»؟! فَقَالَ:
إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«بَادِرُوا بِالْعَمَلِ خِصَالًا سِتًّا:
إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ، وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ، وَنَشْئًا يتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ، يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لَيْسَ بِأَفْقَهِهِمْ وَلا بِأَعْلَمِهِمْ، مَا يُقَدِّمُونَهُ إِلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ»([4]).
وفي رواية: (إِنِّي أَتَخَوَّفُ خِصَالًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّفُهُنَّ عَلَىٰ أُمَّتِهِ)([5]).
وجاء في شرح هٰذا الحديث:
«وَنَشْئًا» "يُرْوىٰ بفَتْحِ الشِّينِ، جَمْع ناشِئ، كخادِم وخَدَم. يريد جَماعةً أحْداثًا. قال أبو موسىٰ: والمَحفوظُ بِسُكونِ الشِّين، كأنه تَسْمِيةٌ بالمَصدر"([6]).
«يتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ» "جَمْع مِزْمار بكسر الميم، آلةُ الزَّمر، يَتَغَنَّون به ويَأتون فيه بنَغَماتٍ مُطرِبة، وقد كثر ذٰلك في هٰذا الزَّمان، وانتهى الأمرُ إلى التَّباهِي باخراجِ ألفاظِ القرآنِ عن وَضْعِها.
«يُقَدِّمُونَ» يعني الناس الذين هُم أَهْلُ ذٰلك الزَّمانِ يُقَدِّمونَ ذٰلك النَّشْء.
«لَيْسَ بِأَفْقَهِهِمْ وَلا بِأَعْلَمِهِمْ» يعني المقدَّم (أَقَلّ منهم فِقْهًا)؛ إذ ليس غرضُهم إلَّا الالتِذاذَ والاستِماعَ بتلك الألحانِ والأوضاع. نسأل اللهَ السَّلامة.
«مَا يُقَدِّمُونَهُ إِلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ» بحيث يُخرِجُونَ الحروفَ عن أوضاعِها، ويَزيدون وينقصون لِأجْلِ مُوافاة الألحان، وتوفُّر النغمات"([7]).

وعن "حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ قال: حَدَّثنا عِمرانُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ طَلْحَةَ الخُزاعِي أنَّ رَجُلًا كانَ يَقْرَأُ لَهُمْ بِالْمَدِينةِ في مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَرَّبَ ذَاتَ ليلة، فَأَنْكَرَ ذٰلك القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّد، وقَرَأ هٰذه الآية:﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) (فُصِّلت)"([8]).
  
وعن أبي بكر المَرُّوْذِيِّ، قال: سمعتُ عبدَ الرحمٰنِ المُتَطَبِّبِ([9]) يقول: قلتُ لِأبي عبد الله في قراءة الألحان؟ فقال:
"يَا أَبَا الفَضْل! اتَّخَذُوهُ أَغَانِيَ! اتَّخَذُوهُ أَغَانِيَ! لَا تَسْمَعْ مِن هٰؤلاء"([10]).

قال الإمام ابن قدامة المَقْدِسِيّ -(ت620ﻫ) رَحِمَهُ اللهُ - في سِياقِ الحديثِ عن تحسينِ الصوتِ بالتلاوةِ والتَّغنِّي بها:
"فَأَمَّا إنْ أَفْرَطَ فِي الْمَدِّ وَالتَّمْطِيطِ وَإِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ، بِحَيْثُ يَجْعَلُ الضَّمَّةَ وَاوًا، وَالْفَتْحَةَ أَلِفًا، وَالْكَسْرَةَ يَاءً؛ كُرِهَ ذٰلك.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُحَرِّمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ الْقُرْآنَ، وَيُخْرِجُ الْكَلِمَاتِ عَنْ وَضْعِهَا، وَيَجْعَلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا.
وَقَدْ رَوَيْنَا (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ ذٰلِكَ، فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُك؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ.
قَالَ: أَيَسُرُّك أَنْ يُقَالَ لَك: يَا مُوحَامَدُ؟ قَالَ: لَا)([11])" اﻫ([12]).
وقد تقرأ أختُنا المعلمةُ في بعضِ الكُتُب أو المَقالات نُقولاتٍ عن أهلِ العلمِ يُفْهَم منها جوازُ القراءةِ بالألحانِ إذا لم تُؤَدِّ إلىٰ تغييرِ الحروف، ولٰكنْ -إنْ صَحَّتْ تلك النُّقولات- ينبغي فَهمُها بما يَتوافَق مع النصوص الشرعية، وفي ذٰلك يقول العلَّامةُ ابن القيم (ت751ﻫ) رَحِمَهُ اللهُ:
"وَفَصْلُ النّزَاعِ أَنْ يُقَالَ: التّطْرِيبُ وَالتّغَنّي([13]) عَلَىٰ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا اقْتَضَتْهُ الطّبِيعَةُ وَسَمَحَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَمْرِينٍ وَلَا تَعْلِيمٍ، بَلْ إذَا خُلّيَ وَطَبْعَهُ وَاسْتَرْسَلَتْ طَبِيعَتُهُ؛ جَاءَتْ بِذٰلك التّطْرِيبِ وَالتّلْحِينِ، فَذٰلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ أَعَانَ طَبِيعَتَهُ بِفَضْلِ تَزْيِينٍ وَتَحْسِينٍ، كَمَا قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ لِلنّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ عَلِمْتُ أَنّكَ تَسْمَعُ؛ لَحَبّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا)([14])، وَالْحَزِينُ وَمَنْ هَاجَهُ الطّرَبُ وَالْحُبُّ وَالشّوْقُ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ دَفْعَ التّحْزِينِ وَالتّطْرِيبِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَلٰكِنَّ النّفُوسَ تَقْبَلُهُ وَتَسْتَحْلِيهِ؛ لِمُوَافَقَتِهِ الطَّبْعَ، وَعَدَمِ التّكَلّفِ وَالتّصَنُّعِ فِيهِ، فَهُوَ مَطْبُوعٌ لَا مُتَطَبِّعٌ، وَكَلِفٌ لَا مُتَكَلِّفٌ، فَهٰذا هُوَ الّذِي كَانَ السّلَفُ يَفْعَلُونَهُ وَيَسْتَمِعُونَهُ، وَهُوَ التّغَنِّي الْمَمْدُوحُ الْمَحْمُودُ، وَهُوَ الّذِي يَتَأَثّرُ بِهِ التّالِي وَالسّامِعُ، وَعَلَىٰ هٰذا الْوَجْهِ تُحْمَلُ أَدِلَّةُ أَرْبَابِ هٰذا الْقَوْلِ كُلّهَا.
الْوَجْهُ الثّانِي: مَا كَانَ مِنْ ذٰلك صِنَاعَةً مِنَ الصّنَائِعِ، وَلَيْسَ فِي الطَّبْعِ السّمَاحَةُ بِهِ، بَلْ لَا يَحْصُلُ إلّا بِتَكَلُّفٍ وَتَصَنُّعٍ وَتَمَرُّنٍ، كَمَا يُتَعَلَّمُ أَصْوَاتُ الْغِنَاءِ بِأَنْوَاعِ الْأَلْحَانِ الْبَسِيطَةِ وَالْمُرَكّبَةِ، عَلَىٰ إيقَاعَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَأَوْزَانٍ مُخْتَرَعَةٍ، لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتّعَلُّمِ وَالتّكَلُّفِ؛ فَهٰذه هِيَ الّتِي كَرِهَهَا السّلَفُ، وَعَابُوهَا وَذَمُّوهَا، وَمَنَعُوا الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَأَنْكَرُوا عَلَىٰ مَنْ قَرَأَ بِهَا، وَأَدِلّةُ أَرْبَابِ هٰذا الْقَوْلِ إنّمَا تَتَنَاوَلُ هٰذا الْوَجْهَ.
وَبِهٰذا التّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ وَيَتَبَيّنُ الصّوَابُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ السّلَفِ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنّهُمْ بُرَآءُ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِأَلْحَانِ الْمُوسِيقَى الْمُتَكَلَّفَةِ الّتِي هِيَ إيقَاعَاتٌ وَحَرَكَاتٌ مَوْزُونَةٌ مَعْدُودَةٌ مَحْدُودَةٌ، وَأَنّهُمْ أَتْقَىٰ لِلّٰهِ مِنْ أَنْ يَقْرَؤوا بِهَا وَيُسَوِّغُوهَا" اﻫ([15]).
وقد يؤيِّد هٰذا التفصيلَ مِن هٰذه الحيثيّة ما رواه الحافظُ أبو بكر بن الخلال (ت311ﻫ) رَحِمَهُ اللهُ ؛ قال:
أخبرنا عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ حَنْبَل؛ قال: سَمِعْتُ أبي وقَدْ سُئلَ عنِ القراءةِ بالألحانِ؟ فقال:
"مُحْدَثٌ، إلَّا أَنْ تكونَ طَبَاعَ ذٰلك الرَّجُل -يعني الرجل طَبْعُهُ- كما كان أبو مُوسىٰ، [أمَّا أن يَتعلَّمَه؛ فلا]"([16]).

وقال العلَّامةُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ (ت676ﻫ) رَحِمَهُ اللهُ:
"وَلَا شَكَّ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي هٰذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يُغَيِّرْ لَفْظَ الْقُرْآنِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ يُبْهِمْ مَعْنَاهُ بِتَرْدِيدِ الْأَصْوَاتِ؛ فَلَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْقُرْآنِ، فَإِنَّ هٰذا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِي تَحْرِيمِهِ.
فَأَمَّا إذَا سَلِمَ مِنْ ذٰلِكَ وَحَذَا([17]) بِهِ حَذْوَ أَسَالِيبِ الْغِنَاءِ وَالتَّطْرِيبِ وَالتَّحْزِينِ فَقَطْ؛ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يَنْبَغِي أَنْ نُنَزِّهَ أَذْكَارَ اللَّهِ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِأَحْوَالِ الْمُجُونِ وَالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّهَا حَقٌّ وَجِدٌّ وَصِدْقٌ، وَالْغِنَاءُ: هَزْلٌ وَلَهْوٌ وَلَعِبٌ. وَهٰذا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُوَ الصَّحِيحُ؛ بدليل ما ذُكِر، وبأدلة أُخَر:
منها: أنَّ كيفيَّةَ قِراءةَ القرآنِ قد بَلَغَتْنا مُتواتِرةً عن كافَّةِ المَشايخ، جِيْلًا فجيلًا إلى العَصر الكريم؛ إلىٰ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وليس فيها تَلْحينٌ ولا تَطريبٌ، معَ كَثْرَةِ المُتَعَمِّقِينَ وَالمُتَنَطِّعِينَ في مَخَارِج الحروف وفي المَدِّ والإدغام والإظهار وغيرِ ذٰلك مِن كيفيّة القراءات، وهٰذا قاطِع.
ومنها: أنّ التَّطريبَ والتَّرجيعَ يؤدِّي إلى الزِّيادةِ في القُرآنِ والنَّقصِ منه، وهما مَمْنُوعان، فالمُؤَدِّي إليهِما مَمنوع. وبيانُه: أنَّ التَّطريبَ والتَّلحينَ يَحتاجُ مِن ضَروراتِه أن يَمُدَّ في غيرِ مَوضِعِ المَدِّ، وينقِص؛ مراعاة لِلوَزن؛ كما هو معلومٌ عند أهله.
ومنها: أنه يؤدِّي إلىٰ تَشْبِيهِ القرآنِ بالشِّعر، وقد نَزَّهَه اللهُ تَعَالَىٰ عنِ الشِّعرِ وأحوالِه، حيث قال تَعَالَىٰ:
 ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ (الحاقَّة)"اﻫ([18]).

وقال الحافظ ابن كثير -(ت774ﻫ) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في مُقدمة "تفسيره":
"المَطلوب شَرْعًا إنَّما هو التَّحسينُ بالصَّوتِ الباعِثِ علىٰ تَدَبُّرِ القُرآنِ وتَفَهُّمِه والخُشوعِ والخُضوعِ والِانقيادِ لِلطَّاعَة، فأَمَّا الأصْواتُ بالنَّغَمات المُحْدَثَة المُرَكَّبة على الأَوزانِ والأَوضاعِ المُلْهِيةِ والقَانون المُوسِيقائيّ؛ فالقرآنُ يُنَزَّه عن هٰذا ويُجَلُّ ويُعَظَّمُ أنْ يُسْلَكَ في أدائه هٰذا المَذهب، وقد جاءتِ السُّنَّةُ بالزَّجْر عن ذٰلك"([19]).
ثم قال بعد ذِكر بعضِ الآثار –ومِنها الحديث السابق ذكره-:
"هٰذه طُرُقٌ حَسَنةٌ في بابِ التَّرهيب، وهٰذا يَدلُّ علىٰ أنَّه مَحْذُورٌ كبير، وهو قراءةُ القرآنِ بالألحانِ التي يُسْلَكُ بها مَذاهِبَ الغناء، وقد نَصَّ الأئمَّةُ رَحِمَهُمُ اللهُ على النَّهْيِ عنه، فأمَّا إنْ خَرَجَ به إلى التَّمْطِيطِ الفاحِشِ الذي يَزيد بِسَبِبِه حَرْفًا أو ينقص حَرْفًا؛ فقد اتَّفَقَ العُلماءُ علىٰ تَحريمِه، واللهُ أعلم" اﻫ ([20]).

كذٰلك قال الحافظ ابن رجب -(ت795ﻫ) رَحِمَهُ اللهُ- بعد بيان الخلاف باختصار:
"وفي الحقيقة؛ هٰذه الألحانُ المُبْتَدَعَةُ المُطْرِبَةُ تُهَيِّجُ الطِّبَاعَ، وتُلْهِي عن تَدبُّرِ ما يَحْصُلُ لَه مِنَ الِاستِماع، حتَّىٰ يَصيرَ التَّلَذُّذُ بِمُجَرَّدِ سَماعِ النَّغَمَاتِ المَوزُونَةِ وَالأَصْواتِ المُطْرِبَة، وذٰلك يَمْنَعُ المَقْصَودَ مِن تَدبُّرِ مَعاني القُرآنِ، وإنَّما وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِتَحْسِينِ الصوتِ بالقرآنِ، لا بِقراءةِ الألْحان! وبَينهما بَوْنٌ بَعِيدٌ" اﻫ([21]).
قال الوالد (ت1420ﻫ) رَحِمَهُ اللهُ:
"والسُّنّةُ أنْ يرتِّلَ القرآنَ ترتيلًا لا هَذًّا ولا عَجَلَةً، بل قراءةً مفسَّرةً حَرْفًا حَرْفًا، ويُزيِّن القرآنَ بصوته، ويتغنَّىٰ به في حدودِ الأحكام المعروفة عند أهل العلم بالتجويد، ولا يتغنَّىٰ به على الألحانِ المبتدَعة ولا على القوانين الموسيقيّة" اﻫ([22]).

وسئل سماحةُ الشيخ ابن باز -(ت1420ﻫ) رَحِمَهُ اللهُ- في برنامج "نور على الدرب":
"ماذا يقول سماحتكم في قارئ القرآنِ بواسِطة مَقاماتٍ هي أَشْبَهُ بِالمَقاماتِ الغِنائيّة، بل هي مأخوذَةٌ منها؟ أفيدونا بذٰلك؛ جزاكم الله خيرًا.
فأجاب:
لا يجوز لِلمؤمنِ أنْ يَقرأَ القرآنَ بألحانِ الغناءِ وطريقةِ المُغَنِّين، بل يَجب أنْ يَقرأَه كما قَرَأَهُ سَلَفُنا الصَّالحُ مِن أَصْحابِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَتْباعِهم بإحسان, فيَقرأَه مُرَتَّلًا مُتَحَزِّنًا مُتَخَشِّعًا، حَتَّىٰ يُؤَثِّرَ في القُلوبِ التي تَسْمَعُه وحَتَّىٰ يَتَّأَثَّرَ هُو بذٰلك.
أمَّا أنْ يَقْرَأَهُ علىٰ صِفةِ المُغَنِّين وعلىٰ طريقتِهم؛ فهٰذا لا يجوز" اﻫ([23]).

وقال الشيخ عطية محمد سالم -(ت1420ﻫ) رَحِمَهُ اللهُ - في تتمَّته علىٰ "أضواء البيان" عند قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)  (المزَّمِّل):
"إنّ للمدِّ حدودًا معلومةً في التجويد حسب تلقِّي القُرَّاءِ رَحِمَهُمُ اللهُ، فما زاد عنها؛ فهو تَلاعُب، وما قَلَّ عنها؛ فهو تقصيرٌ في حقِّ التلاوة.
ومِن هٰذا يُعلَم أنّ المتَّخِذِين القرآنَ كغيره في طريقةِ الأداءِ مِن تمطيطٍ وتزيُّدٍ؛ لم يُراعُوا معنىٰ هٰذه الآية الكريمة، ولا يَمنع ذٰلك تحسينَ الصوتِ بالقراءة، كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زيِّنُوا القُرْآنَ بأصْواتِكُمْ»([24]).
وقال أبو موسىٰ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِرسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو كنتُ أعلم أنكَ تسمع قراءتي؛ لَحَبَّرْتُه لَك تَحْبِيرًا)([25]). وهٰذا الوصف هو الذي يتأتَّىٰ منه الغَرَضُ مِنَ التلاوة، وهو التدبُّر والتأمُّل، كما في قوله تَعَالَىٰ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (النساء: ٨٢)، كما أنه هو الوصف الذي يتأَتَّىٰ معه الغرَض من تخشُّع القلب كما في قوله تَعَالَىٰ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ(الزُّمَر: ٢٣)، ولا تتأثر به القلوبُ والجلودُ إلا إذا كان مرتَّلًا، فإذا كان كالشِّعْرِ أو الكلام العاديِّ؛ لَما فُهِم، وإذا كان مُطرِبًا كالأغاني؛ لَمَا أَثَّر؛ فوجب الترتيلُ كما بيَّن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اﻫ([26]).

ونختم بأبياتٍ مِن نَظْمٍ رائـقٍ لِلعَلَّامةِ القَحْطَانِيِّ -(ت؟([27])) رَحِمَهُ اللهُ- قال فيه:
"وَكَلامُهُ    القُرآنُ   أَنزلَ    آيَهُ * وَحيًا عَلى الْمَبعوثِ مِن  عَدنانِ
صَلَّى عَليهِ  اللهُ   خَيرَ   صَلَاتِهِ * ما لَاحَ   في فَلَكيهِما   القَمَرانِ
هُوَ جاءَ بالقُرآنِ مِن عِنْدِ الَّذي * لا   تَعتَريهِ    نَوائِبُ     الحَدَثانِ
تَنزيلُ   رَبِّ   العالمينَ    وَوَحْيُهُ * بِشَهادَةِ    الأَحْبارِ      وَالرُّهْبانِ
وَكَلامُ   رَبّي لا   يَجيءُ    بِمِثلِهِ * أَحَدٌ   وَلَو   جُمِعَتْ  لَهُ  الثَقَلانِ
وَهْوَ المَصونُ مِنَ الأَباطِلِ  كُلِّها * وَمِنَ   الزِّيادَةِ    فيهِ    وَالنُّقْصانِ
مَن كانَ يَزْعُمُ أَن يُبارِي  نَظْمَهُ * وَيَراهُ   مِثْلَ   الشِّعْرِ     وَالهَذَيانِ
فَلْيَأْتِ   مِنهُ   بِسُورَةٍ  أَوْ   آيَةٍ * فَإِذا   رأى   النَّظْمَينِ   يَشْتَبِهانِ
فَليَنفَرِدْ بِاسْمِ  الأُلوهيَّة  وَلْيَكُنْ * رَبَّ   البَريَّةِ    وَليَقُلْ:  سُبحاني!
فَإِذا   تَناقَضَ  نظمُهُ  فَلْيَلْبَسَنْ * ثَوبَ   النَّقِيصَةِ   صَاغِرًا   بِهَوانِ
أَو   فَلْيُقِرَّ   بِأَنَّهُ    تَنزيلُ  مَن * سَمَّاهُ   في   نَصِّ  الكِتابِ  مَثَاني
لا   رَيبَ  فيهِ    بِأَنَّهُ    تَنْزيلُهُ * وَبدايَةُ   التَّنْزيلِ     في   رَمَضانِ
اللهُ    فَصَّلَهُ    وأَحْكَمَ    آيَهُ * وَتَلَاهُ    تَنزيلًا     بِلَا  أَلحـــــــانِ
هُوَ   قَولُهُ   وَكَلامُهُ   وَخِطابُهُ * بِفَصاحَةٍ      وَبَلاغَةٍ       وَبَيانِ
هُوَ حُكمُهُ  هُوَ عِلْمُهُ هُوَ نُورُهُ * وَصِراطُهُ    الْهَادي  إِلى  الرِّضْوانِ
جَمَعَ   العُلومَ   دَقيقَها وَجَلِيلَها * فبِهِ      يَصُولُ   العَالِمُ    الرَبَّاني
قَصَصٌ  عَلى  خَيرِ البَريَّةِ قَصَّهُ * رَبّي    فأَحَسَنَ    أَيَّما    إِحْسانِ
وَأَبانَ   فيهِ   حَلَالَهُ   وَحَرامَهُ * وَنَهى عَنِ الآثامِ وَالعِصيانِ"([28])

انتهى المراد مِن كتاب
"الدليل إلى كيفية تعليم القرآن الكريم"
(1/ 65 – 76)
الجمعة تاسوعاء 1439




([1]) قال عَزَّ وَجَلَّ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6) (لقمان).
سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْها فَقَالَ: (الْغِنَاءُ، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ!) يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رواه ابن أبي شيبة وغيره رَحِمَهُمُ اللهُ، وصححه الوالد رَحِمَهُ اللهُ؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6/ 1017). ويُنظر المزيد من الآثار عن السلف من الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وغيرهم في كتاب الوالد رَحِمَهُ اللهُ: "تحريم آلات الطرب" ص142 وما بعدها.
([2]) قال ربُّنا جلَّ جَلَالُهُ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) (الزُّمَر).
([3]) من منظومة "عمدة المفيد وعدة المجيد في معرفة التجويد" ضمن كتاب "جمال القُرَّاء" ص665.
([4]) "مسند عابس الغفاري" (2)، وصححه الوالد لِطُرقِه، يُنظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (979).
([5]) "مسند عابس الغفاري" (1)، و"فضائل القرآن" للحافظ أبي عبيد رَحِمَهُ اللهُ، ص 166.
([6]) "النهاية في غريب الحديث والأثر" (5/ 51 و52).
([7]) "الفتح الربَّاني" (19/ 294) بتصرف.
([8]) "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لِلحافظ أبي بكر الخلال؛ ص 78 و79.
([9]) في الأصل : (المتطيب)، والتصحيح مِن "طبقات الحنابلة" (2/ 79).
([10]) "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لِأبي بكر الخلال؛ ص79.
([11]) المرجع السابق.
([12]) "المُغْني" (9/ 180).
([13]) أمَّا (التغنّي) فقد ورد في الأحاديثِ الثابتة،  كما سبق بيانُه -ص 60 و61-، وأمَّا (التطريب)؛ فلا نعلم أنه وَرَدَ، ولا شك أنّ العلَّامة ابن القيم يقصد معناه اللغويّ، جاء في  "لسان العرب" (1/ 557): "التَّطْريب في الصوتِ: مَدُّه وتَحْسينُه، وطَرَّبَ في قراءته: مَدَّ ورجَّع، وطَرَّبَ الطائِرُ في صوته؛ كذٰلك" اﻫ، وإلَّا؛ فإنَّ الطَّرَب والتطريبَ في العُرفِ العامِّ السَّائدِ يَنصرفُ إلى الأغاني والموسيقىٰ، وقد جُعِلتْ هٰذه الكلمةُ مِن العلَّامة ابن القيم ذريعةً لبعضهم ليقول أن ما أثبت جوازَه –أي العلَّامة ابن القيم- هو المقامات، لأنها ما هي إلا تطريب! هٰكذا قالوا، فلْيُعلَم ما نبَّهنا إليه، واللهُ المستعان.
([14]) انظري تخريج الأثر ورواياته في الآتي -إن شاء اللهُ- (1/251 - 253)، وفيه معنى التحبير مع مزيدٍ مِن البيان في مسألة التغنِّي بالقرآن.
([15]) "زاد المَعاد" (1/ 137 و138).
([16]) "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ص 72، والزيادة مِن رواية أخرىٰ ص 73.
([17]) في الأصل: (وحذى).
([18]) "المُفْهِم" (2/ 421 و422) باختصار.
([19]) "تفسير ابن كثير" (1/ 64).
([20]) المصدر السابق (1/ 65).
([21]) رسالة "نزهة الأسماع في مسألة السماع"، ضمن "مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي"  (1/ 463).
([22]) "تلخيص صفة صلاة النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (67).
([23]) "مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رَحِمَهُ اللهُ" (9/ 290).
([24]) سبق (1/ 60).
([25]) راجعي الهامش (2)  في (1/ 69).
([26]) "أضواء البيان" (8/ 370).
([27]) لم يُعثَر علىٰ ترجمةٍ مُحقَّقةٍ أكيدةٍ له؛ فيما ذَكَره أهلُ العلم، ومنهم فضيلة الشيخ صالح السّحِيمي حَفِظَهُ اللهُ، في شرحه لـ "نونية القحطاني" الشريط الثاني/ الدقيقة  13- 16 تقريبًا.
([28]) "القصيدة النُّونيّة للقحطاني" الأبيات:  47 – 65.