مِن توجيهات التجويد في التلاوة: المثلان الكبير


مجالُ التوجيه
سَبَبُه
مِثالُه
"المثلان [الكبير] إذا التقيا في كلمةٍ أو كلمتين.
ليُنْعَمَ([1]) تَفكيكُهُما، ويُلَخَّصَ([2]) بيانُهما، مِن غير هذْرمةٍ ولا تمطيط"([3])، ولئلا يَضْعُف صوتُ الحرفين معًا، أو يضعف أحدُهما فينتج صوتٌ كالإدغام.
â وجوهُهُم á
 â وقعَ عَليهم á

مِن جدول مجالات توجيهات التجويد الخاصة وأسبابها مع الأمثلة (1/ 109)




([1]) جاء في "الهادي إلىٰ لغة العرب" (4/ 325): "أَنْعَمَ الرجُلُ عَمَلَه إذا أجادَه وتأنَّقَ فيه وبالَغ... ويُقال: إذا عَمِلتَ عَمَلًا فأَنْعِمْهُ، أيْ أجِدْهُ وأَحْسِنْ عمَلَه حتّىٰ يكونَ كاملًا" اﻫ .
([2]) "التلخيص: التبيين والشرح، يقال: لخَّصْتُ الشيءَ إذا استقصيتُ في بيانِه". "لسان العرب" (7/ 86).
([3]) "التحديد في الإتقان والتجويد" ص 125 بتصرف يسير.

تنبيهٌ على تطويل النَّفَس بهدفٍ مخالِفٍ لِلسُّنَّة

كيفية اكتساب مهارة النَّفَس الطويل في القراءة

تشكو بعضُ المعلمات مِن قِصَرٍ في النفَس خلال تلاوة الآيات دونما علةٍ أو مرض، فلا تكاد تقرأ إلَّا ويضيق نَفَسُها، وتضطر للوقف بين كلمة وأخرىٰ، مما ينقطع معه تَسَلْسُلُ المعاني، ويُنقِص مِن حُسْن الأداء.
  وللتخلص مِن ذٰلك ولإطالة النَّفَس؛ نُشجع أختنا المعلمةَ أن تستعين بالله، ثم تتدرب في جلسةٍ منفصلة عن تلاوة القرآن الكريم؛ وَفْقَ الطريقةِ الآتية([1]):
1° اجلسي جِلسةً صِحِّيَّةً مُستقيمةَ الظَّهر، منتصبة الكتفين.
2° خذي نفَسًا عميقًا (عملية الشهيق)؛ حتىٰ تمتلئ رئتاكِ بالهواء بأقصىٰ ما يمكن، ثم احبسي هٰذا الهواء.
3° أفرغي هواءَ الرئتين (عملية الزفير) ببطءٍ وتَرَيُّث.
4° كرري النقاطَ السابقة إلىٰ حين الشعور بقدْرٍ مِن المرونة في حبس الهواء في الرئتين.
5° أعيدي النقاطَ (1 و2 و3) ولٰكن وعند النقطة الثالثة؛ أفرِغِي هواءَ الرئتين مع البدء بقراءةِ نصٍّ ما غيرِ القرآن الكريم، ولا تَقرئي إلَّا بعد إكمال عمليةِ الشهيق (ملء الرئتين بالهواء تمامًا)، فتقرئين بإفراغ هواء الزفير تدريجيًا أثناء القراءة.
6° كرري هٰذا التدريب في الجلسة الواحدة، ثم علىٰ جلسات متعددة، مع قراءة نَصٍّ طويل، وبين يومٍ وآخر، ستتمكنين -بإذن الله- مِن قراءةِ سطرٍ أو أكثر دون انقطاع النفَس خلاله.

ومع استمرار التدرُّب -علىٰ نصوصٍ غيرِ القرآنِ الكريم- سـتجدين أنك -بعونه تَعَالَىٰ- تقرئين الآيات الكريمة دون توقف في موضعٍ غيرِ مناسب.
فهٰذه -بإذن الله- هي الطريقة الناجعة في إطالة النفَس، أمَّا مَن تَقرأ وهي منحنيةُ الظَّهْرِ، مُنكَبَّةٌ برأسها مع كتفيها إلى الأمام، ولا تعتني بملء الرئتين بالهواء قبل القراءة، ولا تركِّز أَبَدَأَتْ قراءتَها بهواءِ الزفير أم الشهيق؛ فإنّها سرعان ما:
تضطر للوقف في وسط الكلمة. أو:
تقف بين كلِّ كلمةٍ وأخرىٰ. أو:
تتوقف في مواضع لا يحسُن الوقفُ عليها. أو:
تتوقف في مواضع يكون الوقف علىٰ ما بعدها أَولىٰ مِنَ الوقف عليها.
-علاوةً علىٰ أنها- ستُجهِدُ نفْسَها خلال تلاوة المقطع حتىٰ ولو كان قصيرًا!
وكلُّ ما سبق سيكون عائقًا لتدبُّرها للآيات الكريمة.
ويجب أن لا ننسىٰ أنَّ عمليةَ رياضة النفَس تحتاج إلىٰ تدريبٍ ومران ومواظبة جدِّية، ففي بداية التدريب ربما لا تستطيع القارئةُ إكمالَ سطرٍ ولا نصفَ سطر، ولٰكن شيئًا فشيئًا، ومع مواصلة التدرب؛ ستصبح -بإذن اللهِ- قادرةً علىٰ وصل سطرٍ كاملٍ بما فيه مِن مدود وغُنن وأحكام، بل وربما أكثر مِن سطر.
وقد كانت معلمتُنا -جزاها اللهُ خيرًا- تحثُّنا على التدريب علىٰ إطالة النفَس، كما تحثنا علىٰ تصحيح الأحكام!
فعلى المعلمة أن تعلِّم طالباتها طريقةَ التدرب علىٰ تطويلِ النفس وتنصحهنَّ بها.

تنبيهٌ على
تطويل النَّفَس بهدفٍ مخالِفٍ لِلسُّنَّة

(1) ذَكَرْنا ما سبق حتىٰ تستطيعَ المعلمةُ أنْ تقرأَ الآيةَ الواحدةَ مِن غير أنْ تتوقف عند موضعٍ غيرِ حَسَن، أو تُجْهِدَ نفْسَها للوصول إلى الموضع الحسَن؛ فلم نقصد البتة أنْ تَقرأ عِدَّةَ آياتٍ متتالياتٍ بنَفَسٍ واحد، كما يفعل البعضُ، فيتدرَّب علىٰ قراءةِ سُورَةٍ كاملةٍ بنَفَسٍ واحِد، ظَنًّا منه أنه قد أَتىٰ بِحَسَنَ؛ بينما هو قد خالف السُّنن!
فعن أُمِّ سَلَمَةَ رضيَ اللهُ عنها قَالَتْ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ [آيَةً آيَةً] يَقُولُ: الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)، ثُمَّ يَقِفُ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)، ثُمَّ يَقِفُ"([2]).
قال والدنا (ت1420ﻫ) رحِمَهُ اللهُ :
"(فائدة): قال أبو عمرو الداني في باب تفسير الوقف الحسن (5/ 2):
’’ومما ينبغي له أن يقطع عليه: رؤوسُ الآي؛ لأنهن في أنفسهن مقاطع، وأكثر ما يوجد التامُّ فيهن؛ لاقتضائهنَّ تمامَ الجُمَلِ واستبْقاءِ أكثرِهِنَّ انقضاءَ القصص. وقد كان جماعةٌ مِنَ الأئمَّةِ السالفين والقُرَّاء الماضين يَستحبُّون القطْعَ عليهنّ وإنْ تَعَلَّق كلامُ بعضِهنَّ ببعض؛ لِما ذَكرْنا مِن كونهنّ مقاطعَ، ولسن بمُشْبِهاتٍ لِما كان مِنَ الكلامِ التامِّ في أنفُسِهِنّ دون نهايتهن‘‘.
ثم روىٰ عنِ اليزيدي عن أبي عمرو أنه كان يَسكت علىٰ رأس كلِّ آية، فكان يقول: إنه أحب إليّ إذا كان آيةً أن يَسكت عندها، وقد وردت السُّنّةُ أيضًا بذٰلك عن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عند استعماله التقطيع. ثم ساق هٰذا الحديث. قلت: وهٰذه سُنَّةٌ تَرَكها أكثرُ قُرَّاء هٰذا الزمان. فاللهُ المستعان". ا ﻫ كلامُ الوالد رَحِمَهُ اللهُ ([3]).
وقال -أي الوالد- أحسنَ اللهُ إليه:
"وكذٰلك كانت قراءتُه كلُّها؛ يَقف علىٰ رؤوس الآي، ولا يَصِلُها بما بعدها، بدليلِ قولِ راويةِ الحديث:
"كان يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً". وهٰذا مُطلق غير مقيَّد ﺑ : {الفَاتِحَة}، وإنما تَلَتْها علىٰ سبيل المثال؛ لا علىٰ طريق التحديد. قال في " الزاد " (1/125):
(وهٰذا هو الأفضل: الوقوف علىٰ رؤوس الآيات؛ وإنْ تعلَّقتْ بما بَعدها. وذهب بعضُ القُرَّاء إلىٰ تَتَبُّعِ الأغراض، والمقاصد، والوقوفِ عند انتهائها، واتِّباعُ هَدْيِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسُنَّتِه أَولىٰ؛ وممن ذَكَر ذٰلك البيهقيُّ في "شعب الإيمان" وغيره، ورجَّح الوقوفَ علىٰ رؤوس الآي؛ وإنْ تَعَلَّقتْ بما بعدها). وقال الشيخ عليّ القاري:
(أجمع القُرَّاء علىٰ أنَّ الوقف على الفواصل وقْفٌ حَسَنٌ؛ ولو تَعَلَّقتْ بما بعدها)" اﻫ([4]).

(2) التدريب الذي ذكرناه هو تدريبٌ مُنفصلٌ عن جلسات التلاوة، وأيضًا ليس له علاقةٌ بتدريباتِ التنفُّس التي تُجرىٰ في دورات البرمجة اللغوية العصبية التي يبدؤون بها جلساتهم أو تتخلّلها، فيُفضون منها إلىٰ مآربَ مخالِفةٍ لِلشَّرع([5])!





([1]) هٰذا التدريب في المنـزل طبعًا.
([2]) رواه الإمام الترمذي وغيرُه، والسياق له، والزيادة للإمام أبي داود. ينظر "سنن الترمذي" (2927)، و"سنن أبي داود" (4001) بتحقيق الوالد رَحِمَهُ اللهُ .
([3]) "إرواء الغليل" (2/ 62).
([4]) "أصل صفة صلاة النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ " (1/ 296 و297).
([5]) سنَعود -إن شاء اللهُ تَعَالَىٰ- إلى الحديثِ عن هٰذه النازِلَة في قِسم الحفظ (3/244 256).

مِن صُور مخالفة السُّنَّة في حفظ القرآن بالبرمجة اللغوية العصبية


تكرار: (أنا أَقْدِر.. أنا أَستطيع).
وهٰذا التكرار لهٰذه الألفاظ المخصوصة لِهٰذا الغرض المخصوص؛ التزامٌ لِمَا لم يُشرَع تكرارُه.
والسُّنَّةُ تَأمر بتَكرار الآياتِ نفسِها! عَنْ أَبِي مُوسَىٰ I عَنِ النَّبِيِّ Hقَالَ:
«تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا»([1]).

تخصيصُ (قَبْلَ النومِ) بهٰذا التكرار.
والسُّنّةُ نَصَّتْ علىٰ أذكارٍ محدَّدةٍ قَبْلَ النوم، ونُبِّهَ فيها الصحابيَّ I إلىٰ عدم استبدال كلمة (وَرسولك) بـ «نَبِيِّك»([2])، مما دلّ علىٰ أنَّ "الأذكارَ والأوراد تَوقيفيّة"([3]).

التهنئةُ الشخصيّة على الطَّاعة! بمعنىٰ أنّ مَن حَفِظتْ سورةً؛ فلتُهنّئ نفسَها؛ تشجيعًا علىٰ هٰذا العملِ الطيِّب، عن طريق كتابةِ شهادةِ تقديرٍ لِنَفْسها -مثلًا-!
والسُّنّة تُرَهِّبُ العَبْدَ مِن ضمانِ القَبول؛ فعن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ H قَالَتْ:
سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ Hعَنْ هٰذِهِ الْآيَةِ:
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ (المؤمنون: 60)، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ:
«لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَـٰكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولٰئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ »([4]).
فمَن حفظت سورةً؛ فلْتَحْمَدِ اللهَ F علىٰ فَضْلِه، وتَسأله المزيد، ولْتَوجَلْ أن لا يُقبَل منها، فتَجْمع بهٰذا بين الخوف والرجاء، نعم تَسُرُّها حَسَنَتُها، ولٰكن لا تَجْزِم بِقَبولها لدرجة التهنئةِ والثناءِ على النَّفْس، كمَن فَقَدَ عقلَه!

تهْوين أمرِ مُراجعةِ المَحفوظِ مِنَ القرآنِ الكريم؛ لأنَّ (العقل اللاواعي لا يَنسىٰ أبدًا)! كذا قالوا.
والسُّنّة تُثبت أنَّ النسيان يقع، حتَّى في حقِّ النبيِّ G:
فعَنْ عَائِشَةَ J، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ H يَسْمَعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ:
«يَرْحَمُهُ اللَّهُ! لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا»([5]).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ L أَنَّ النَّبِيَّ H صَلَّىٰ صَلَاةً فَقَرَأَ فِيهَا فَلُبِسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأُبَيٍّ: «أَصَلَّيْتَ مَعَنَا؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَا مَنَعَكَ [أَنْ تَفْتَحَ عَلَيَّ]؟»([6]).
ولهٰذا؛ لابد مِن تعاهُد القرآن الكريم، كما سبق أعلاه، وقد خصصنا مبحثًا من كتابنا لهٰذا الأمر المهمّ([7]).

وبعدُ.. فإنّ مما يُغني عن الإسهابِ بالسُّطُور في بيانِ المَطلوبِ مِن الحافظِة، والذي نُوْصي أختَنا المعلمةَ بتربيةِ الطالباتِ عليه وتزكيتِهنّ به: سَطْرًا واحدًا مِنَ السُّنّة المُطهَّرة!
«احْرِصْ عَلَىٰ مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ»([8]).
فيا أختنا الحافظة!
احذري تلك التُّرَّهات التي تُمَجِّد العقلَ وتُخْرِجُه عن عُبودِيَّتِه لِخالِقه B، واحرِصي علىٰ حِفظ القرآن الكريم، طالبةً العَونَ مِنَ الله، واثقةً به C، ولا تَكْسَلِي عن بلوغ غايتك؛ فجِدِّي واجتهدي. واللهُ الموفِّق.



لقراءة رأس الكلام في المسألة؛ يُنظر هنـــــــا




([1]) متفق عليه، وهو في "صحيح البخاري" (66- فَضائل القُرآن/ 23 - اسْتِذْكَار الْقُرْآنِ وَتَعَاهُدِهِ/ 5033).
([2]) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ I قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ H: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِــعْ عَلَىٰ شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: (اللَّهُمَّ! أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ! آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ)؛ فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ؛ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ»، قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ H، فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ! آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ؛ قُلْتُ: وَرَسُولِكَ؛ قَالَ: «لَا؛ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ». متفق عليه، وهو في "صحيح البخاري" (4- الوُضُوء/ 75- فَضْل مَنْ بَاتَ عَلَى الْوُضُوءِ/ 247).
([3]) يُنظر "أصل صفة صلاة النَّبيِّ H" (3/ 943).
([4]) سبق (1/ 186).
([5]) رواه أبو داود وابن حبان وغيرُهما X، وصححه الوالد V "التعليقات الحسان" (107).
([6]) انظري الحاشية في (3/ 193).
([7]) مبحث: التوجيه إلىٰ تعاهُد الحفظ (3/ بدءًا مِن 361).
([8]) سبق (1/ 392).

تنبيه على حِفْظ القرآن الكريم بما يُسمَّى: (البرمجة اللغوية العصبية)

على المعلمة أن تَثْبُتَ بطالباتها علىٰ مَشاعرَ متوازنةٍ في مسألةِ حِفْظِ كلام اللهِ تَعَالَىٰ، لِيَبْقَينَ في دائرةِ التعبُّد للهِ F والتذلُّلِ له، فلا يتسلَّلُ إلىٰ قلوبهنَّ الغرورُ والتَّعالي، ولا تنسى الطالبةُ منهنّ أنّ الأمرَ أوَّلًا وآخرًا بيـَدِ اللهِ D الأوَّلِ والآخِرِ، وما مِن حرفٍ يُحفَظ إلَّا بِمَنِّه وتوفيقِه وكَرمِه ولُطْفِه، وأنَّ النَّفْسَ ليس لها مِن الأمر شيءٌ، لا الحفظ ولا غيره، بل إنّ الله B إذا وَكَلَ نَفْسَ إحدانا إليها؛ فإنما يَكِلُها إلىٰ ما يُهْلِكها، ولهٰذا جاء الدعاءُ الذي يُندَب المسلمُ لِيَبدأَ به صباحَه ومَساءه، ويَلهَجَ به حـالَ الكَرْب:
«ولا تَكِلْني إلىٰ نَفْسِي طَرْفةَ عَيْنٍ»([1]).
وإنّ ما ذكرنا وما سنذكره مِن وسائل للحفظ؛ إنما هو مِن باب الحضِّ على الأخذِ بالأسباب، فالمطلوبُ شرعًا عدمُ الركونِ إليها وعدمُ إهمالِها.
أما ما انتشر في الآونةِ الأخيرة مِنَ التَّنادِي إلىٰ حِفْظِ القرآنِ الكريم أو السُّنَّةِ النبويَّةِ بِما يُسمىٰ بالبَرْمَجةِ اللغوية العصبية، المُمَجِّدَةِ (لِطاقاتِ) الإنسانِ الضعيفِ الفقيرِ، المُهَمِّشَةِ للاستعانة بالرحمٰن العليِّ القدير! فإننا نُحَذِّر الحافظَ أو الراغبَ في الحفظ منها؛ لأنها سبيلٌ لِنسيانِ العبدِ فَضْلَ ربِّه C في الحفظِ والذَّاكرة، وذريعةٌ واضحة لِنِسْبَةِ الفضلِ في ذٰلك لـِ (طاقتِه) و(قُدرتِه) و(ذاتِه) ومَحْضِ (إرادته)! وكلُّ ذٰلك مِنَ النفْخِ في (ثقتِه بنفْسِه)، وتركيزِ النَّظر إلىٰ طاقاته (اللامحدودة)، واعتقادِه في نَفْسِه أنه متىٰ (قرَّر) الشيء؛ كان! ومتىٰ شَرَع فيما قرَّره فـ (نفّذَّه)؛ حصل ولابد! وأنه بواسطةِ خيالاتِ (عقله اللاواعي)؛ يجعل ما حلم به واقعًا!  وأنه إذا (بَرْمَجَ عَقْلَه) علىٰ عَمَلٍ؛ أَنْجَزَهُ ولابد!.. إلخ ما يَزعمون..
فبذٰلك يُخدَش توحيدُ الرُّبُوبيّةِ في قلبِه أو يُجرَح، فيَجرُّه هٰذا إلىٰ تضاؤلِ توحيدِ الألوهيّة لديه؛ فلا تَذَلُّلَ ولا توكُّل! وبين هٰذا وذاك تَذُوبُ في النَّفْسِ الفَوارقُ بين العبدِ وربَّه؛ فيختلُّ توحيدُ الأسماءِ والصفات في وجدانه!
فأين البرمجةُ اللغويةُ العصبيةُ مِن أُمِّ الكتاب، وفيها:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؟! فهل يُحَصِّل العبدُ عِبادةً إلَّا بعونِه تَعَالَىٰ؟! وما العقلُ والقدرةُ إذا انفصلتْ عن خالقِها؟! وأنَّىٰ لها؟!
وكيف يستقيم أن يقف العَبدُ بين يدي ربّه، يَسأله العونَ علىٰ عِبادتِه، ثم إذا انصرف من صلاته؛ كرَّر في ذِهنه، بل ويُدَوِّن ذٰلك بيده:
(أنا أقدر أن أحفظ.. أنا أقدر أن أحفظ)! أو:
(أنا حافظ.. أنا حافظ)!
مُعتقِدًا أنه إذا فَعَلَ هٰذا؛ حَفِظَ؟!
وهل اعتمادُ الطالبِ علىٰ تلك الطُّرق (إبداعٌ) أم ابتداع؟! إذْ لم يَجْرِ علىٰ هٰذا حِفظُ السَّلفِ الصالح ولا مُتَّبِعِيهم إلىٰ عصرنا هٰذا، بل ما هٰذه الطُّرق إلَّا زخرفَ قولٍ مِمَّن تَخَيّلوا مِن وراء سُجُفِ زُورِها منافعَ اتَّخذوا قدوةً لهم صاحبَ مَطعمٍ شهير! وآخرَ مُؤسِّسًا لِرسومِ الكرتون، المُصوِّرِ لِذوات الأرواحِ المحرَّم في شَرْعِنا!
أهٰؤلاء قدوتُنا في حِفظِنا لِكلام ربِّنا؟!
فهٰذه هي الشخصيات التي يَذْكُرُها أصحابُ البرمجة العصبية في دَوراتهم المحفِّزةِ علىٰ حِفظِ القرآن الكريم! وإذا ذَكَروا شخصيةً إسلاميةً كالإمام البخاريِّ V؛ فإنهم يربطون الإمامةَ والشُهرة بالبرمجة أيضًا! فيقولون أنه بسببِ أنه (بَرْمَجَ عَقْلَه) على الحفظ؛ صار حافظًا! وهٰذا القول حِكايته تُغني عن الردّ عليه!

لقد تمادى الأمرُ ببعضِهم لِتَمجيدِ ما يُسمُّونه بـ (الرَّسائل الإيجابية)، مِن مِثْل: (أنا أَقْدِر .. أنا أستطيع..)، حتىٰ بَلَغوا التَّهْوينَ -تصريحًا أو تلميحًا- مِن كلمة: (إن شاء اللهُ) و(اللهُ كريم)! فلا يَصْلح في قانون البرمجة أن تقول الطالبةُ:
(إن شاء اللهُ سأحفظ خمسةَ أجزاءٍ هٰذا العام)، أو:
(سأراجع اليومَ سورتَين إن شاء اللهُ)!
فإنّا للهِ، وإنّا إليه راجعون!
والعَجَب يشتدُّ إنْ عَلِمْنا أنَّ هٰذا يَحْصُل في دَوراتٍ لِحِفظ (القرآن الكريم)! أي أنَّ المدرِّب والمتدرِّب يَقْرَآنِ قولَ العليِّ الكبير:
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا (24) (الكهف)!
ما الفرقُ بين (إني فاعل) المنهيِّ عن قولِها مُستقِلَّةً في الآية الكريمة، وبين: (أنا قادر.. أنا أستطيع.. أنا جَديرٌ بكذا) والتي هي رُكنٌ أساسٌ في هٰذه الدَّورات؟!
وإنّ مِن مُسلَّمات عقيدة السلف أنّ لِلإنسان مشيئة، ولٰكنّها تابعةٌ لِمشيئة اللهِ D، لا مُستقِلَّةً، فبهٰذا هُم وَسَطٌ بين القَدَريّة الذين لا يُدخِلون أفعالَ العِباد في مشيئة الله، والجَبْرِيّة الذين يَنْفُون مشيئةَ العبدِ، ويقولون أنه مَجْبور علىٰ أفعاله.
قال تَعَالَىٰ:
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) (المُدَّثِّر).

المُدَرِّب والمُتدرِّب يَقْرَآنِ قولَ الله  D:
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) (الصَّافَّات)!
قال الحافظُ القصّاب -(ت في حُدود 360ﻫ) V- في الآية الأخيرة:
"حُجّة على المعتزلة والجهمية، ألا تَرىٰ إلىٰ مخاطَبة هٰذا لِقَرينِه الذي كان حريصًا علىٰ إغوائِه في الدُّنيا بما يقول له: أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) (الصَّافَّات)، فأَعْلَمَه أنه لم يَنجُ ممّا كان يَدْعوه إليه قرينُه، ويزيِّنه له إلَّا بنعمةِ ربِّه، لا بِطَاقتِه واستطاعة نَفْسِه" اﻫ ([2]).
نعم هناك استطاعةٌ للعبدِ أَثْبَتَها الشَّرْعُ، وهي شَرْطُ التكليف، فليست هي المَنفيَّةُ في كلامِ الحافظ القصّاب، ولا في تَحْذيرِنا، وليست هي ما يَعْنِيه أهلُ البَرمَجة، وببيان الفرق بين الاستطاعتين؛ يَتجلّى المُراد بإذن الله:
"إنَّ لفظَ الاستطاعةِ والقُدرةِ -عند السَّلفِ- يتناول نوعَين:
أحدهما: القدرة الشرعية المُصَحِّحَة للفِعل، التي هي مَناطُ الأمرِ والنهي، وهي متقدِّمةٌ على الفعل، وقد تكون مُصاحِبةً له، وهي من جهةِ الصحة والوُسع والتمكُّن وسلامة الآلات، وقد جاء ذكرُها في قولِه [تَعَالَىٰ] في سورة (آل عمران) آية (97): وَلِلّٰهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)، فأوجب الحجَّ على المُستطيع، فلو لم يستطع إلّا مَن حجَّ؛ لم يكن الحجُّ قد وجب إلَّا علىٰ مَن حجَّ، ولم يعاقب أحدًا علىٰ ترك الحج. وهٰذا معلومُ الفساد.
وفي قولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التَّغابُن: 16).
وفي قولِه H لعِمران بن حصين كما في "صحيح البخاري"([3]):
«صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ؛ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ؛ فَعَلَىٰ جَنْبٍ».
فكلُّ مَن أَمَرهُ اللهُ ونَهاه بهٰذا الاعتبار؛ فهو مُستطيع، وإنْ عَلِمَ أنه لا يُطيعه.
النوع الثاني: القُدرة القَدَرية الموجِبة لِلفعل التي هي مُقارِنةٌ له لا يتأخَّرُ عنها، وهي المذكورةُ في قوله تَعَالَىٰ في سورة (هود) آية (20):
مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20).
فالمرادُ نَفْيُ حقيقةِ القُدرة، لا نفيُ الأسبابِ والآلات؛ لِأنها كانت ثابتة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أنْ ذَكَرَ النَّوعَين علىٰ هٰذا الترتيب:
(فَالْأُولَىٰ: هِيَ الشَّرْعِيَّةُ، الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَعَلَيْهَا يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ، وَهِيَ الْغَالِبَةُ فِي عُرْفِ النَّاسِ.
وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْكَوْنِيَّةُ، الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَبِهَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الْفِعْلِ.
فَالْأُولَىٰ لِلْكَلِمَاتِ الْأَمْرِيَّاتِ الشَّرْعِيَّاتِ.
وَالثَّانِيَةُ لِلْكَلِمَاتِ الْخِلْقِيَّاتِ الْكَوْنِيَّاتِ)([4])"([5]).
فالعبدُ له قُدرةٌ وَهبَه اللهُ إيّاها، وأَمَرَهُ بِموجبها أمرَ نَدْبٍ إلىٰ حِفظِ القرآنِ الكريم، ولٰكنْ لا سبيلَ له إلىٰ تحقيقِ وجودِ الحفظِ؛ فذٰلك فِعلُ اللهِ F، والتوازُن: اغتنامُ ما وهبَ اللهُ مع الاستعانةِ به لِلتحقيق.
فاللّٰهُمَّ! يا مقلِّبَ القلوب! ثبِّتْ قُلوبَنا علىٰ دِينِكَ.
ومِن أهمّ ما ترتكز عليه دوراتُ التحفيظِ بالبرمجة اللغوية العصبية: الوَلَعُ بـ (الثقةِ بالنَّفْس)، رُكُونًا إليها، واعتِمادًا عليها!
وكيف يَثِقُ المرءُ بِنَفْسِه وما هي إلَّا خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللهِ، ناصيتُها بِيَدِه، ماضٍ فيها حُكْمُه E وهو القائل: وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17) (الأنعام)؟!
وهل نَفْسٌ أزكىٰ مِن نَفْسِ النبيِّ G وقد أَمَرَهُ ربُّه C: قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ  (الأعراف: 188)؟!
وسئل فضيلة العلامة محمد بن إبراهيم -(ت1389ﻫ) V- عن:
"قول مَن قال: تجب الثقةُ بالنفس؟
فأجاب: لا تجب، ولا تجوز الثقةُ بالنفس. في الحديث: «وَلَا تَكِلْني إلىٰ نَفْسِيْ طرْفَةَ عَيْن»([6]). مَن يقوله؟! أَخشىٰ أَنَّ هٰذه غَلطةٌ مِنكَ؟! لا أَظنُّ أَنَّ إنسانًا له عَقْلٌ يَقول ذٰلك، فضلًا عن العِلم" اﻫ ([7]).
ومما نَظَمَهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -(ت727ﻫ) V- قولُه في أبياتٍ رائقات:
"أنا الفقيرُ إلىٰ ربّ البَرِيَّـــــــــــــاتِ
أنَا الظَّلُومُ لِنَفْســــــِي وَهْيَ ظَالِمَتِي
لا أَسْتَطِيعُ لِنَفْســـــــِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ
وَلَيْــــــسَ لِي دُونَـــــهُ مَوْلًى يُدَبِّـرُنِي
إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الرَّحْمَنِ خَــــــــــــــالِقِنَا
وَلَسْـــــــــــــتُ أَمْلِكُ شَيْئًا دُونَهُ أَبَدًا

وَلاَ ظَهِيرَ لَهُ كَـــيْ يَسْــــــــتَعِينَ بِهِ
وَالفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لازِمٌ أَبَــدًا
وَهذه الحَالُ حَالُ الخَلْــــــقِ أَجْمَعِهِمْ
فَمَنْ بَغَى مَطْلبًا مِنْ غَيْرِ خَــــــــالِقِهِ
وَالحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ الكَــــوْنِ أَجْمَعِهِ


أنَا المُسَــــيْكِينُ في مَجْمُوعِ حَالاتِي
وَالخَيْرُ إِنْ يَــــــــــــــأْتِنَا مِنْ عِنْــــدِه يَاتِي
وَلاَ عَنِ النَّفْــــــــــسِ لِي دَفْعَ المَضَرَّاتِ
وَلاَ شَــــــــــــفِيعٌ إِذَا حَاطَتْ خَطِيئَاتِي
إِلَى الشَّفِيعِ كَمَا قَدْ جَا فِي الاَيَــاتِ
وَلاَ شَــــــــريكٌ أَنَا فِي بَعْـــــضِ ذَرَّاتِي
كَمَا يَكـــــــونُ لأرْبَابِ الوَلايَاتِ
كَمَا الغِنَى أَبَدًا وَصْــــــــفٌ لَهُ ذَاتِي
وَكُــــــــــلـُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْــــــدٌ لَهُ آتِ
فَهْوُ الجَـــهُولُ الظَّلُومُ المُشْــــرِكُ العَاتِي
مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا مِنْ بَعْدُ قَدْ يَاتِي"([8])

وفي المقابل؛ لديهم (رسائل سَلْبِيّة) مَنبوذَةٌ في قَواميسِهم، فلا يَصْلُح عِندهم أن يُحدِّث الحافظُ نفسَه بمِثل: (لا أريد أن أَنسىٰ مَحفوظي، لا أريد أنْ أكون جاهلًا)! بل عليه أن يكون (إيجابيًّا) فيقول: (سأذكر محفوظي، سأكون عالِمًا)!
وعلىٰ ذٰلك؛ -اللهمَّ! غُفرًا- كيف سيَقَع في قَلْبِ المُتَدَرِّب قولُه تَعَالَىٰ عن نبيِّه الكريمِ موسىٰ H: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17) (القَصص)؟! بل كلُّ النواهي التي في شَرعِنا مِثل: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) (الأنعام)، ومثل: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)  (الضُّحىٰ)؟!
اللّٰهمَّ! اهدِنا وسدِّدنا، اللّٰهمَّ! إنا نسألك الهدىٰ والسَّداد.

المُدَرِّب والمُتدرِّب يَقْرَآنِ ما أثْبَتَهُ القرآنُ الكريم ثناءً علىٰ قول الصالحين المُخبتين، وذمًّا لِقَول المُتجبِّرين:
 فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) (النَّمْل)
قَالُواْ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) (البقرة)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) (القصص)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) (الزُّمَر).
فبأيِّ الفريقَين يَقْتَدي أهلُ البَرمجة؟!

قال العلامة العثيمين (ت1421ﻫ) V:
"قوله: عَلَىٰ عِلْمٍ: في معناه أقوال:
الأول: قال قتادة: "علىٰ عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوهِ المَكاسِبِ"، فيَكون العِلمُ عائدًا على الإنسان؛ أي: إنَّني عالِمٌ بِوُجوه المَكاسِب، ولا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَليَّ فيما أُوتِيتُهُ، وإنَّما الفَضْلُ لي، وعليه يَكُون هٰذا كُفْرًا بنِعمة الله، وإعجابًا بالنَّفس.
الثاني: قال آخرون: "علىٰ عِلْمٍ مِنَ اللهِ أَنِّي له أَهْلٌ"؛ فيَكُون بذٰلك مُدِلًّا على اللهِ، وأنه أَهْلٌ ومُستحِقٌّ لِأنْ يُنْعِمَ اللهُ عليه، والعلمُ هنا عائدٌ على الله؛ أي: أُوتِيتُ هٰذا الشيءَ علىٰ عِلْمٍ مِنَ اللهِ أني مُستحقٌّ له وأَهْلٌ له.
الثالث: قولُ مُجاهِد: "أُوتيتُه علىٰ شَرَف"، وهو مِن مَعنى القولِ الثاني، فصار معنى الآيةِ يَدُورُ علىٰ وَجْهَين:
الوجهُ الأول: أنَّ هٰذا إنكارُ أنْ يَكُونَ ما أَصابه مِنَ النعمةِ مِن فَضْلِ اللهِ، بل زَعَمَ أنها مِن كَسْبِ يَدِه وعِلْمِهِ ومَهَارته.
الوجه الثاني: أنَّه أَنْكَر أنْ يكونَ للهِ الفَضلُ عليه، وكأنَّه هو الذي له الفَضْلُ على الله؛ لِأنَّ اللهَ أَعطاه ذٰلك لِكَونِه أَهْلًا لِهٰذه النعمة.
فيَكونُ علىٰ كِلَا الأَمرين غيرَ شاكِرٍ للهِ D، والحقيقةُ أنَّ كُلَّ ما نُؤتَاه مِنَ النِّعَمِ فهو مِنَ الله; فهو الذي يَسَّرَها حتىٰ حَصَلْنا عليها، بل كُلُّ ما نَحْصُلُ عليه مِن عِلْمٍ أو قُدْرَةٍ أو إرادة فمِنَ الله؛ فالواجبُ علينا أن نُضِيفَ هٰذه النِّعَمَ إلى اللهِ سُبْحَانَهُ، قال تَعَالَىٰ: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (النَّحْل: 53)، حتىٰ ولو حَصَلَتْ لك هٰذه النِّعمةُ بِعِلْمِكَ أو مَهارتِك؛ فالذي أَعطاكَ هٰذا العلمَ أو المَهارةَ هو اللهُ D، ثُمَّ إنَّ المَهارةَ أو العلمَ قد لا يكون سَببًا لِحُصولِ الرِّزق؛ فكم مِن إنسانٍ عالِمٍ أو ماهِرٍ حاذِق، ومع ذٰلك لا يُوَفَّقُ، بل يَكون عاطِلًا!" اﻫ([9]).

يتبعه:
  



([1]) الحديث حسَّنه والِدُنا V. روايةُ دُعاءِ الكَرب في "سنن أبي داود" (35- الأدب/ 110- مَا يَقُولُ إذا أَصْبَحَ؟/ 5090). وروايةُ وِرْدِ الصباح والمساء في "سنن النسائي" وغيرها؛ "صحيح الترغيب والترهيب" (6- النوافل/ 14- الترغيب في آيات وأذكار يقولها إذا أصبح وإذا أمسىٰ/ 661).
([2]) "نُكَتُ القرآن" (3/ 727).
([3]) (18- تَقْصِير الصَّلاة/ 19- إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعِدًا صَلَّىٰ عَلَى جَنْبٍ/ 1117).
([4]) "مجموع الفتاوىٰ" (8/ 373).
([5]) مِن كلام الشيخ عليّ التويجري، مُحققِ الجزءِ الأول مِن "نكت القرآن" (1/ 87).
([6]) سبق (3/ 244).
([7]) "فتاوىٰ ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم"  (1/ 170/ السؤال 87).
([8]) "مدارج السالكين" (2/ 157 159).
([9]) "القول المفيد" (2/ 282 و283).