على المعلمة أن تَثْبُتَ بطالباتها علىٰ مَشاعرَ
متوازنةٍ في مسألةِ حِفْظِ كلام اللهِ تَعَالَىٰ، لِيَبْقَينَ في دائرةِ التعبُّد
للهِ F والتذلُّلِ له، فلا يتسلَّلُ
إلىٰ قلوبهنَّ الغرورُ والتَّعالي، ولا تنسى الطالبةُ منهنّ أنّ الأمرَ أوَّلًا
وآخرًا بيـَدِ اللهِ D الأوَّلِ والآخِرِ، وما مِن
حرفٍ يُحفَظ إلَّا بِمَنِّه وتوفيقِه وكَرمِه ولُطْفِه، وأنَّ النَّفْسَ ليس لها
مِن الأمر شيءٌ، لا الحفظ ولا غيره، بل إنّ الله B إذا وَكَلَ نَفْسَ إحدانا
إليها؛ فإنما يَكِلُها إلىٰ ما يُهْلِكها، ولهٰذا جاء الدعاءُ الذي يُندَب المسلمُ
لِيَبدأَ به صباحَه ومَساءه، ويَلهَجَ به حـالَ الكَرْب:
وإنّ ما ذكرنا وما سنذكره مِن وسائل للحفظ؛ إنما هو مِن
باب الحضِّ على الأخذِ بالأسباب، فالمطلوبُ شرعًا عدمُ الركونِ إليها وعدمُ
إهمالِها.
أما ما انتشر في الآونةِ الأخيرة مِنَ التَّنادِي إلىٰ
حِفْظِ القرآنِ الكريم أو السُّنَّةِ النبويَّةِ بِما يُسمىٰ بالبَرْمَجةِ اللغوية
العصبية، المُمَجِّدَةِ (لِطاقاتِ) الإنسانِ الضعيفِ الفقيرِ، المُهَمِّشَةِ للاستعانة
بالرحمٰن العليِّ القدير! فإننا نُحَذِّر الحافظَ أو الراغبَ في الحفظ منها؛ لأنها
سبيلٌ لِنسيانِ العبدِ فَضْلَ ربِّه C في الحفظِ والذَّاكرة، وذريعةٌ
واضحة لِنِسْبَةِ الفضلِ في ذٰلك لـِ (طاقتِه) و(قُدرتِه) و(ذاتِه) ومَحْضِ
(إرادته)! وكلُّ ذٰلك مِنَ النفْخِ في (ثقتِه بنفْسِه)، وتركيزِ النَّظر إلىٰ
طاقاته (اللامحدودة)، واعتقادِه في نَفْسِه أنه متىٰ (قرَّر) الشيء؛ كان! ومتىٰ
شَرَع فيما قرَّره فـ (نفّذَّه)؛ حصل ولابد! وأنه بواسطةِ خيالاتِ (عقله
اللاواعي)؛ يجعل ما حلم به واقعًا! وأنه
إذا (بَرْمَجَ عَقْلَه) علىٰ عَمَلٍ؛ أَنْجَزَهُ ولابد!.. إلخ ما يَزعمون..
فبذٰلك يُخدَش توحيدُ الرُّبُوبيّةِ في قلبِه
أو يُجرَح، فيَجرُّه هٰذا إلىٰ تضاؤلِ توحيدِ الألوهيّة لديه؛ فلا
تَذَلُّلَ ولا توكُّل! وبين هٰذا وذاك تَذُوبُ في النَّفْسِ الفَوارقُ بين العبدِ
وربَّه؛ فيختلُّ توحيدُ الأسماءِ والصفات في وجدانه!
فأين البرمجةُ اللغويةُ العصبيةُ مِن أُمِّ الكتاب، وفيها:
ﮋإِيَّاكَ
نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُﮊ ؟!
فهل يُحَصِّل العبدُ عِبادةً إلَّا بعونِه تَعَالَىٰ؟! وما العقلُ والقدرةُ إذا
انفصلتْ عن خالقِها؟! وأنَّىٰ لها؟!
وكيف يستقيم أن يقف العَبدُ بين يدي ربّه، يَسأله
العونَ علىٰ عِبادتِه، ثم إذا انصرف من صلاته؛ كرَّر في ذِهنه، بل ويُدَوِّن ذٰلك
بيده:
(أنا أقدر أن أحفظ.. أنا أقدر أن أحفظ)! أو:
(أنا حافظ.. أنا حافظ)!
مُعتقِدًا أنه إذا فَعَلَ هٰذا؛ حَفِظَ؟!
وهل اعتمادُ الطالبِ علىٰ تلك الطُّرق (إبداعٌ) أم
ابتداع؟! إذْ لم يَجْرِ علىٰ هٰذا حِفظُ السَّلفِ الصالح ولا مُتَّبِعِيهم إلىٰ
عصرنا هٰذا، بل ما هٰذه الطُّرق إلَّا زخرفَ قولٍ مِمَّن تَخَيّلوا مِن وراء
سُجُفِ زُورِها منافعَ اتَّخذوا قدوةً لهم صاحبَ مَطعمٍ شهير! وآخرَ مُؤسِّسًا
لِرسومِ الكرتون، المُصوِّرِ لِذوات الأرواحِ المحرَّم في شَرْعِنا!
أهٰؤلاء قدوتُنا في حِفظِنا لِكلام ربِّنا؟!
فهٰذه هي الشخصيات التي يَذْكُرُها أصحابُ البرمجة
العصبية في دَوراتهم المحفِّزةِ علىٰ حِفظِ القرآن الكريم! وإذا ذَكَروا شخصيةً
إسلاميةً كالإمام البخاريِّ V؛ فإنهم يربطون الإمامةَ
والشُهرة بالبرمجة أيضًا! فيقولون أنه بسببِ أنه (بَرْمَجَ عَقْلَه) على الحفظ؛
صار حافظًا! وهٰذا القول حِكايته تُغني عن الردّ عليه!
لقد تمادى الأمرُ ببعضِهم لِتَمجيدِ ما يُسمُّونه بـ
(الرَّسائل الإيجابية)، مِن مِثْل: (أنا أَقْدِر .. أنا أستطيع..)، حتىٰ بَلَغوا
التَّهْوينَ -تصريحًا أو تلميحًا- مِن كلمة: (إن شاء اللهُ) و(اللهُ كريم)! فلا
يَصْلح في قانون البرمجة أن تقول الطالبةُ:
(إن شاء اللهُ سأحفظ خمسةَ أجزاءٍ هٰذا العام)، أو:
(سأراجع اليومَ سورتَين إن شاء اللهُ)!
فإنّا للهِ، وإنّا إليه راجعون!
والعَجَب يشتدُّ إنْ عَلِمْنا أنَّ هٰذا يَحْصُل في
دَوراتٍ لِحِفظ (القرآن الكريم)! أي أنَّ المدرِّب والمتدرِّب يَقْرَآنِ قولَ
العليِّ الكبير:
ﮋ وَلَا
تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ
اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ
مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا (24)ﮊ (الكهف)!
ما الفرقُ بين (إني فاعل) المنهيِّ عن قولِها
مُستقِلَّةً في الآية الكريمة، وبين: (أنا قادر.. أنا أستطيع.. أنا جَديرٌ بكذا)
والتي هي رُكنٌ أساسٌ في هٰذه الدَّورات؟!
وإنّ مِن مُسلَّمات عقيدة السلف أنّ لِلإنسان مشيئة،
ولٰكنّها تابعةٌ لِمشيئة اللهِ D، لا مُستقِلَّةً، فبهٰذا هُم
وَسَطٌ بين القَدَريّة الذين لا يُدخِلون أفعالَ العِباد في مشيئة الله،
والجَبْرِيّة الذين يَنْفُون مشيئةَ العبدِ، ويقولون أنه مَجْبور علىٰ أفعاله.
قال تَعَالَىٰ:
ﮋ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ
(54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ
أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)ﮊ (المُدَّثِّر).
المُدَرِّب والمُتدرِّب يَقْرَآنِ قولَ الله D:
ﮋ فَاطَّلَعَ
فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56)
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)ﮊ (الصَّافَّات)!
قال الحافظُ القصّاب -(ت في حُدود 360ﻫ) V- في الآية الأخيرة:
"حُجّة على المعتزلة والجهمية، ألا تَرىٰ إلىٰ
مخاطَبة هٰذا لِقَرينِه الذي كان حريصًا علىٰ إغوائِه في الدُّنيا بما يقول له: ﮋ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ
(54)ﮊ (الصَّافَّات)، فأَعْلَمَه أنه لم يَنجُ ممّا كان
يَدْعوه إليه قرينُه، ويزيِّنه له إلَّا بنعمةِ ربِّه، لا بِطَاقتِه واستطاعة
نَفْسِه" اﻫ ([2]).
نعم هناك استطاعةٌ للعبدِ أَثْبَتَها الشَّرْعُ، وهي
شَرْطُ التكليف، فليست هي المَنفيَّةُ في كلامِ الحافظ القصّاب، ولا في
تَحْذيرِنا، وليست هي ما يَعْنِيه أهلُ البَرمَجة، وببيان الفرق بين الاستطاعتين؛
يَتجلّى المُراد بإذن الله:
"إنَّ لفظَ الاستطاعةِ والقُدرةِ -عند السَّلفِ-
يتناول نوعَين:
أحدهما:
القدرة الشرعية المُصَحِّحَة للفِعل، التي هي مَناطُ الأمرِ والنهي، وهي متقدِّمةٌ
على الفعل، وقد تكون مُصاحِبةً له، وهي من جهةِ الصحة والوُسع والتمكُّن وسلامة
الآلات، وقد جاء ذكرُها في قولِه [تَعَالَىٰ] في سورة (آل عمران) آية (97): ﮋوَلِلّٰهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)ﮊ، فأوجب الحجَّ على
المُستطيع، فلو لم يستطع إلّا مَن حجَّ؛ لم يكن الحجُّ قد وجب إلَّا علىٰ مَن
حجَّ، ولم يعاقب أحدًا علىٰ ترك الحج. وهٰذا معلومُ الفساد.
وفي قولِه: ﮋ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْﮊ (التَّغابُن: 16).
«صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ؛ فَقَاعِدًا،
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ؛ فَعَلَىٰ جَنْبٍ».
فكلُّ مَن أَمَرهُ اللهُ ونَهاه بهٰذا الاعتبار؛ فهو
مُستطيع، وإنْ عَلِمَ أنه لا يُطيعه.
النوع الثاني: القُدرة القَدَرية الموجِبة لِلفعل التي هي مُقارِنةٌ له لا يتأخَّرُ
عنها، وهي المذكورةُ في قوله تَعَالَىٰ في سورة (هود) آية (20):
ﮋ مَا
كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20)ﮊ.
فالمرادُ نَفْيُ حقيقةِ القُدرة، لا نفيُ الأسبابِ
والآلات؛ لِأنها كانت ثابتة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أنْ ذَكَرَ النَّوعَين
علىٰ هٰذا الترتيب:
(فَالْأُولَىٰ: هِيَ الشَّرْعِيَّةُ، الَّتِي
هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَعَلَيْهَا
يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ، وَهِيَ الْغَالِبَةُ فِي عُرْفِ النَّاسِ.
وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْكَوْنِيَّةُ، الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ،
وَبِهَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الْفِعْلِ.
فَالْأُولَىٰ لِلْكَلِمَاتِ الْأَمْرِيَّاتِ الشَّرْعِيَّاتِ.
فالعبدُ له قُدرةٌ وَهبَه اللهُ إيّاها، وأَمَرَهُ بِموجبها
أمرَ نَدْبٍ إلىٰ حِفظِ القرآنِ الكريم، ولٰكنْ لا سبيلَ له إلىٰ تحقيقِ وجودِ
الحفظِ؛ فذٰلك فِعلُ اللهِ F، والتوازُن: اغتنامُ ما وهبَ
اللهُ مع الاستعانةِ به لِلتحقيق.
فاللّٰهُمَّ! يا مقلِّبَ القلوب! ثبِّتْ قُلوبَنا علىٰ
دِينِكَ.
ومِن أهمّ ما ترتكز عليه دوراتُ التحفيظِ بالبرمجة
اللغوية العصبية: الوَلَعُ بـ (الثقةِ بالنَّفْس)، رُكُونًا إليها،
واعتِمادًا عليها!
وكيف يَثِقُ المرءُ بِنَفْسِه وما هي إلَّا خَلْقٌ
مِن خَلْقِ اللهِ، ناصيتُها بِيَدِه، ماضٍ فيها حُكْمُه E وهو القائل: ﮋوَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ
بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ
كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17)ﮊ (الأنعام)؟!
وهل نَفْسٌ أزكىٰ مِن نَفْسِ النبيِّ G وقد أَمَرَهُ ربُّه C: ﮋ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا
وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاء اللَّهُﮊ (الأعراف: 188)؟!
وسئل فضيلة العلامة محمد
بن إبراهيم -(ت1389ﻫ) V- عن:
"قول مَن قال: تجب
الثقةُ بالنفس؟
فأجاب: لا تجب، ولا تجوز الثقةُ بالنفس. في الحديث: «وَلَا
تَكِلْني إلىٰ نَفْسِيْ طرْفَةَ عَيْن»([6]). مَن يقوله؟! أَخشىٰ أَنَّ هٰذه غَلطةٌ مِنكَ؟! لا أَظنُّ أَنَّ إنسانًا له
عَقْلٌ يَقول ذٰلك، فضلًا عن العِلم" اﻫ ([7]).
ومما نَظَمَهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -(ت727ﻫ) V- قولُه في أبياتٍ رائقات:
"أنا الفقيرُ إلىٰ ربّ البَرِيَّـــــــــــــاتِ
أنَا الظَّلُومُ لِنَفْســــــِي وَهْيَ ظَالِمَتِي لا أَسْتَطِيعُ لِنَفْســـــــِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ وَلَيْــــــسَ لِي دُونَـــــهُ مَوْلًى يُدَبِّـرُنِي إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الرَّحْمَنِ خَــــــــــــــالِقِنَا وَلَسْـــــــــــــتُ أَمْلِكُ شَيْئًا دُونَهُ أَبَدًا وَلاَ ظَهِيرَ لَهُ كَـــيْ يَسْــــــــتَعِينَ بِهِ وَالفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لازِمٌ أَبَــدًا وَهذه الحَالُ حَالُ الخَلْــــــقِ أَجْمَعِهِمْ فَمَنْ بَغَى مَطْلبًا مِنْ غَيْرِ خَــــــــالِقِهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ الكَــــوْنِ أَجْمَعِهِ |
أنَا المُسَــــيْكِينُ في مَجْمُوعِ حَالاتِي
وَالخَيْرُ إِنْ يَــــــــــــــأْتِنَا مِنْ عِنْــــدِه يَاتِي وَلاَ عَنِ النَّفْــــــــــسِ لِي دَفْعَ المَضَرَّاتِ وَلاَ شَــــــــــــفِيعٌ إِذَا حَاطَتْ خَطِيئَاتِي إِلَى الشَّفِيعِ كَمَا قَدْ جَا فِي الاَيَــاتِ وَلاَ شَــــــــريكٌ أَنَا فِي بَعْـــــضِ ذَرَّاتِي كَمَا يَكـــــــونُ لأرْبَابِ الوَلايَاتِ كَمَا الغِنَى أَبَدًا وَصْــــــــفٌ لَهُ ذَاتِي وَكُــــــــــلـُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْــــــدٌ لَهُ آتِ فَهْوُ الجَـــهُولُ الظَّلُومُ المُشْــــرِكُ العَاتِي مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا مِنْ بَعْدُ قَدْ يَاتِي"([8]) |
وفي المقابل؛ لديهم (رسائل سَلْبِيّة) مَنبوذَةٌ
في قَواميسِهم، فلا يَصْلُح عِندهم أن يُحدِّث الحافظُ نفسَه بمِثل: (لا أريد أن أَنسىٰ
مَحفوظي، لا أريد أنْ أكون جاهلًا)! بل عليه أن يكون (إيجابيًّا) فيقول: (سأذكر
محفوظي، سأكون عالِمًا)!
وعلىٰ ذٰلك؛ -اللهمَّ! غُفرًا- كيف سيَقَع في قَلْبِ
المُتَدَرِّب قولُه تَعَالَىٰ عن نبيِّه الكريمِ موسىٰ H: ﮋقَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17)ﮊ (القَصص)؟! بل كلُّ النواهي التي في شَرعِنا مِثل: ﮋفَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)ﮊ (الأنعام)، ومثل: ﮋ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) ﮊ (الضُّحىٰ)؟!
اللّٰهمَّ! اهدِنا وسدِّدنا، اللّٰهمَّ! إنا نسألك
الهدىٰ والسَّداد.
المُدَرِّب والمُتدرِّب يَقْرَآنِ ما أثْبَتَهُ
القرآنُ الكريم ثناءً علىٰ قول الصالحين المُخبتين، وذمًّا لِقَول المُتجبِّرين:
ﮋ فَلَمَّا رَآهُ
مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ
أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ
رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) ﮊ (النَّمْل)
ﮋ قَالُواْ
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ (32) ﮊ (البقرة)
ﮋ قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ
أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً
وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)ﮊ (القصص)
ﮋفَإِذَا
مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) ﮊ (الزُّمَر).
فبأيِّ الفريقَين يَقْتَدي أهلُ البَرمجة؟!
قال العلامة العثيمين (ت1421ﻫ) V:
"قوله: ﮋ عَلَىٰ عِلْمٍ ﮊ: في معناه أقوال:
الأول:
قال قتادة: "علىٰ عِلْمٍ مِنِّي
بِوُجُوهِ المَكاسِبِ"، فيَكون العِلمُ
عائدًا على الإنسان؛ أي: إنَّني عالِمٌ بِوُجوه المَكاسِب، ولا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَليَّ
فيما أُوتِيتُهُ، وإنَّما الفَضْلُ لي، وعليه يَكُون هٰذا كُفْرًا بنِعمة الله،
وإعجابًا بالنَّفس.
الثاني:
قال آخرون: "علىٰ عِلْمٍ مِنَ
اللهِ أَنِّي له أَهْلٌ"؛ فيَكُون بذٰلك مُدِلًّا على اللهِ، وأنه أَهْلٌ ومُستحِقٌّ لِأنْ يُنْعِمَ
اللهُ عليه، والعلمُ هنا عائدٌ على الله؛ أي: أُوتِيتُ هٰذا الشيءَ علىٰ عِلْمٍ مِنَ
اللهِ أني مُستحقٌّ له وأَهْلٌ له.
الثالث:
قولُ مُجاهِد: "أُوتيتُه علىٰ شَرَف"، وهو مِن مَعنى القولِ الثاني، فصار
معنى الآيةِ يَدُورُ علىٰ وَجْهَين:
الوجهُ الأول: أنَّ هٰذا إنكارُ أنْ يَكُونَ ما أَصابه مِنَ النعمةِ مِن فَضْلِ اللهِ،
بل زَعَمَ أنها مِن كَسْبِ يَدِه وعِلْمِهِ ومَهَارته.
الوجه الثاني: أنَّه أَنْكَر أنْ يكونَ للهِ الفَضلُ عليه، وكأنَّه هو الذي له الفَضْلُ
على الله؛ لِأنَّ اللهَ أَعطاه ذٰلك لِكَونِه أَهْلًا لِهٰذه النعمة.
فيَكونُ علىٰ كِلَا الأَمرين غيرَ شاكِرٍ للهِ D، والحقيقةُ أنَّ كُلَّ ما نُؤتَاه
مِنَ النِّعَمِ فهو مِنَ الله; فهو الذي يَسَّرَها حتىٰ حَصَلْنا عليها، بل كُلُّ
ما نَحْصُلُ عليه مِن عِلْمٍ أو قُدْرَةٍ أو إرادة فمِنَ الله؛ فالواجبُ علينا
أن نُضِيفَ هٰذه النِّعَمَ إلى اللهِ سُبْحَانَهُ، قال تَعَالَىٰ: ﮋوَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ
فَمِنَ اللَّهِﮊ (النَّحْل: 53)، حتىٰ ولو حَصَلَتْ لك هٰذه النِّعمةُ بِعِلْمِكَ أو مَهارتِك؛ فالذي أَعطاكَ
هٰذا العلمَ أو المَهارةَ هو اللهُ D، ثُمَّ إنَّ المَهارةَ أو
العلمَ قد لا يكون سَببًا لِحُصولِ الرِّزق؛ فكم مِن إنسانٍ عالِمٍ أو ماهِرٍ حاذِق،
ومع ذٰلك لا يُوَفَّقُ، بل يَكون عاطِلًا!" اﻫ([9]).
يتبعه: