أ. شهر رمضان المبارَك:
قال تَعَالَىٰ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ
أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ﴾ (البَقَرة: 185).
فنلاحظ في الآية الكريمة اقترانَ ذِكرِ شهرِ رمضانَ
الْمُبارَكِ مع القرآنِ العظيم، وهٰذا الارتباطُ إنما هو مِن وجهَين:
1ـ أنّ القرآنَ الكريمَ نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ في
إحدىٰ ليالي هٰذا الشهرِ الفَضِيل.
2ـ أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ
وَسَلَّمَ كان يَعْرِضُ القُرآنَ الكريمَ علىٰ جبريلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ في هٰذا
الشهر، فعن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال:
"كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ،
وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ
فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّىٰ يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ
جِبْرِيلُ؛ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَة"([1]).
وقد بيّن العلَّامةُ عُبيدٌ الجَابريُّ -حَفِظَهُ
اللهُ- أنَّ هٰذا (الخَيرَ) "يَتَضَمَّنُ شَيئين يَخْتصَّان رمضانَ:
أحدَهما: تَعاهُدُ القرآن، وتَعاهُدُ القرآنِ مَأمورٌ به في كُلِّ حِين، ولٰكن في
رمضانَ آكد، وهٰكذا كلُّ قُربة، كلُّ قُربةٍ مَأمورٌ بها المسلمُ في كُلِّ حِين،
ولٰكنَّها في رمضان آكد.
والشيء الثاني: البَذْل والعطاء في وَجْهِه الْمُستَحقِّ الْمَشروع"
اﻫ المراد([2]).
وقد بَرَزَتْ هٰذه العَلاقةُ الوَثيقةُ بين رمضانَ
المُبارَكِ والقرآنِ الكريم؛ مِن حديثِ الرسولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ حيث جَمَعَ
بينهما بخاصيةٍ مُشترَكَة وفي حديثٍ واحِد:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«الصِّيَامُ
وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ يَقُولُ الصِّيَامُ:
أَيْ
رَبِّ! مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ.
وَيَقُولُ الْقُرْآنُ:
مَنَعْتُهُ
النَّوْمَ بِاللَّيْلِ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ:
والتلاوةُ في شهر رمضان تكون نظرًا مِنَ المصحف بالنسبةِ
لِغَيرِ الحافِظ، أما الحافِظ؛ فإنّ رمضانَ بالنسبة له غَنيمةٌ ثَمينةٌ لِتعاهُد
كتابِ اللهِ الكريم؛ لِمَا فيه مِنَ الإقبالِ على اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ، وصَفاءِ
الذِّهْن، وبركةِ الأوقاتِ وتنظيمِها، فيُراجعَ أكبرَ قَدْرٍ مُمكنٍ مِن القرآن
الكريم.
ولا شكَّ أنّ عَرْضَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ القرآنَ الكريمَ علىٰ جبريل عَلَيْهِ السَّلَامُ كان غَيْبًا،
وليس بالقراءةِ مِن رِقٍّ أو نحوِه ممَّا كان يُكتَب فيه القرآنُ الكريمُ آنَئذ.
فعلى الحافظةِ أن تُكَثِّفَ المُراجُعةَ لَيلًا
ونهارًا في هٰذا الشهرِ الفَضيل، ونُؤكِّد علىٰ أن تَكونَ هٰذه المُراجَعةُ عن ظَهْرِ
قَلْبٍ، وليس قراءةً بالنَّظَرِ في المصحف فحسب، وذٰلك لِأَنَّ بعضَ الحافظاتِ تَظُنُّ
أنَّ شَهْرَ رمضانَ يُخَصُّ بالتلاوةِ فقط، فتَتْرُكَ التَّسميعَ طِيلةَ هٰذا
الشهر، وتَكون النتيجةُ أنها تَرجِع بَعْدَ رمضانَ بِحِفْظٍ رَكيكٍ، خاصةً إنْ كان
حِفْظًا جديدًا!
ملحوظة:
إنّ هٰذا لا يَمْنَعُ الحافظةَ أنْ تَقْرَأَ مَحْفوظَها
نَظَرًا في رَمضانَ المُبارَك، ولٰكنِ المقصودُ أنه لا بد أنْ تَجْمَعَ معَ ذٰلك
المُراجَعةَ غَيْبًا؛ لِئلَّا يَتَفَلَّتَ مَحْفوظُها.
ب. عشر ذي الحجة:
إنها «أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا»! كما
أخبر نبيُّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ([4])،
وفَضْلُ العملِ الصالح فيها مشهور؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَا
مِنْ عَمَلٍ أَزْكَىٰ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ
خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَىٰ». قِيلَ:
وَلَا
الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! قَالَ:
«وَلَا
الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ فَلَمْ
يَرْجِعْ مِنْ ذٰلك بِشَيْءٍ»([5]).
فما أجدر بالحافظة أن تقضي هٰذه الأيامَ بتلاوةِ كلامِ
اللهِ غَيبًا مِن حِفْظِها!
وأمّا مَن أنعم اللهُ جَلَّ
جَلَالُه عليها بنِعمة الحج؛ فإنّ لها في أيام مِنًى أوقاتًا فضيلةً يَحسُن بها
أنْ تَعْمُرَها بتلاوةِ كتابِ الله تَعَالَىٰ، وقد وافقتْ غَنيمةً هنيئةً ليكون هٰذا
مِن حِفْظِها.