قال والدُنا (ت1420ﻫ) أَحْسَنَ اللهُ إليه ورَفَعَ
دَرَجاتِه في عِلِّيِّين:
"واعلم أنَّ الظاهِرَ مِنَ اختلافِ رواياتِ هٰذا
الحديث* أنَّ القصةَ تَكَرَّرتْ بَينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبَيْنَ
ابنِ عَمْرو، وأنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لم يَتَنزَّل معه إلى
الثَّلَاثِ في مَجْلسٍ واحِد؛ بل في مجالس. وإلىٰ ذٰلك جَنَح الحافظُ في
"الفتح".
ويحتمل أنَّ القصةَ واحدةٌ، وأنَّ بعضَ الرُّواةِ
حَفِظَ ما لم يَحفظْه الآخَرُ، ولٰكنْ يَمْنَعُ القولَ بهٰذا ما ثَبَتَ في روايةٍ:
أنَّه مَنَعَهُ مِنَ القراءةِ في أقلَّ مِن خَمس، وفي أخرىٰ في أقلَّ مِن سبع؛ فلا
مَناصَ مِنَ القولِ بتعدُّدِها، وإلَّا؛ لَزِمَ رَدُّ بعضِ الرواياتِ الصحيحةِ، أو
ضرْبُ بعضِها ببعض! وهٰذا لا يجوز؛ ما أَمْكَنَ الجمعُ بينها. قال الحافظ:
(فَلَا مَانِع أَنْ يَتَعَدَّد قَوْلُ النَّبِيّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّه بْن عَمْرو ذٰلك؛ تَأْكِيدًا،
وَيُؤَيِّدهُ الِاخْتِلَافُ الْوَاقِعُ فِي السِّيَاق، وَكَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ
الزِّيَادَةِ لَيْسَ عَلَى التَّحْرِيم، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي جَمِيعِ ذٰلك
لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، وَعُرِفَ ذٰلك مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ الَّتِي أَرْشَدَ
إِلَيْهَا السِّيَاقُ، وَهُوَ النَّظَرُ إِلَىٰ عَجْزِهِ عَنْ سِوَىٰ ذٰلك فِي
الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ فَقَالَ: يَحْرُم
أَنْ يَقْرَأ الْقُرْآن فِي أَقَلّ مِنْ ثَلَاث، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ عَلَىٰ أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي ذٰلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ
النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ، فَعَلَىٰ هٰذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ
وَالْأَشْخَاصِ. وَاللَّهُ أَعْلَم)([1]).
قلتُ [الكلامُ للوالدِ رَحِمَهُ اللهُ]: وهٰذا
مخالِفٌ لِصَريح قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ
ثَلاَثٍ؛ لَمْ يَفْقَهْهُ»([2]).
وهٰذا نصٌّ عامٌّ شامِلٌ لِجميعِ الأشخاص، وفيه
التقديرُ بثلاثِ ليالٍ؛ فكيف يقال: (إنه لا تقدير في ذٰلك)؟! فَقَدْ ذَكَر صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ كُلَّ مَن يَقرأُ القرآنَ في أَقَلَّ مِن ثلاثٍ؛ لا
يَفْقَهُهُ، ولا يَفْهَمُه الفَهْمَ المَقصودَ مِن تلاوةِ القرآن.
كما قد أشار إلىٰ ذٰلك قولُه تَعَالَىٰ: ﴿أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾ (محمد).
وقال ابن مسعود: (مَن قرأ القرآنَ في أقلّ مِن ثلاث؛
فهو رَاجِزٌ، هَذٌّ كَهَذِّ الشِّعْرِ، ونَثْرٌ كَنَثْرِ الدِّقَلِ([3])).
وكان مُعاذُ بنُ جَبَلٍ لا يَقرأ القرآنَ في أقلّ مِن
ثلاث.
ذكرهما ابنُ نصر (63) .
وقد نَسَبَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كُلَّ
مَن خَالَف ذٰلك إلىٰ عَدَمِ الفِقه -كما هو ظاهِرُ مَعنى الحديثِ المذكورِ
باللفظِ الثاني-.
فالحقُّ أنه لَا يجوزُ
قراءةُ القرآنِ في أقلَّ مِن ذٰلك. وهو اختيارُ الإمامِ أحمد وغيرِه مِن الأئمةِ -كما سلف-. وقال الحافظُ ابن كثير في "فضائل
القرآن" (ص 172): (وقد كَرِه غيرُ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ قراءةَ القرآنِ في
أقلَّ مِن ثلاث، كما هو مَذهب أبي عُبيد، وإسحاق بن راهويه، وغيرِهما مِنَ الخلف
أيضًا، وثَبَتَ عن كثيرٍ مِنَ السَّلَفِ أنهم قَرؤوا القرآنَ في أقلَّ مِن ذٰلك،
وهو مَحْمولٌ علىٰ أنه ما بَلَغَهُم في ذٰلك حديثٌ ممَّا تَقدَّم، أو أنهم كانوا
يَفْهَمُون ويَتفَكَّرون فيما يَقرؤونه مع هٰذه السُّرعة).
قلتُ: والجوابُ الصحيحُ هو الأولُ، وأمَّا هٰذا؛
فمُخالِفٌ لِقَولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ
ثَلاَثٍ؛ لَمْ يَفْقَهْهُ»([4])
-كما بَيَّنَّا-" انتهىٰ كلامُ الوالد رَحِمَهُ اللهُ([5]).
فهٰذه علةٌ أُولىٰ
لِلنهيِ عن قراءةِ القرآن في أقلّ مِن ثلاث.
وثمة علةٌ أخرىٰ؛ توضحها إحدىٰ رواياتِ حديثِ عبدِ الله بن عمرو رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ؛ إذ جاء في آخرِها أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ
وَسَلَّمَ قال:
«فَإِنَّ لِكُلِّ
عَابِدٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِمَّا إِلَىٰ سُنَّةٍ، وَإِمَّا
إِلَىٰ بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَىٰ سُنَّةٍ؛ فَقَدِ اهْتَدَىٰ،
وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَىٰ غَيْرِ ذٰلِكَ؛ فَقَدْ هَلَكَ»([6]).
"الشِّرَّةُ: النشاطُ والرَّغبة"([7]).
وقال العلامة الطحاويّ (ت321ﻫ) رَحِمَهُ اللهُ:
"هِيَ الْحِدَّةُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي
يُرِيدُهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمُ الَّتِي
يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَىٰ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ مِنْهُمْ فِيهَا مَا دُونَ الْحِدَّةِ الَّتِي
لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ عَنْهَا، وَالْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَىٰ
غَيْرِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّمَسُّكِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِمَا
قَدْ يَجُوزُ دَوَامُهُمْ عَلَيْهِ، وَلُزُومُهُمْ إِيَّاهُ حَتَّىٰ يَلْقَوْا
رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي كَشْفِ ذٰلِكَ الْمَعْنَىٰ أَنَّهُ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى
اللهِ: أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ»([8])"
اﻫ ([9]).
وقال الوالدُ -(ت1420ﻫ)
رَحِمَهُ اللهُ- عن روايةِ «فَإِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً»:
"وهٰذه حُجَّةٌ أخرىٰ في كَراهةِ قراءةِ القرآنِ
في أقلَّ مِن ثلاث؛ لِما يُخشىٰ مِن فُتُورِ الهِمَّةِ، وعدمِ استطاعةِ
المُداوَمةِ عليها إلَّا بِمَشَقَّة؛ كما وَقَع لِعبدِ اللهِ بنِ عمرو، حتىٰ كان
يقول لَمَّا كبر:
(وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)([10]).
فاقْبَلُوا -أيَّها المسلمون!- رُخصةَ رَسولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي هيَ مِنَ اللهِ تَعَالَىٰ؛ فـ :
«إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
أَنْ تُؤْتَىٰ رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَىٰ عَزَائِمُهُ»([11]).
كما ثبت في الحديث الصحيح.
وصَدَقَ اللهُ العظيمُ إذ وَصَفَ رَسولَه الكريمَ
بأنه ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128)﴾ (التَّوبة)" اﻫ([12]).